لعب الجيش دوراً كبيراً في إقامة الدولة العباسية، وكذلك القضاء على التمردات والثورات في الأقاليم المختلفة، لكن ذلك لم يمنع قادته من الانقلاب على الحكم بين الحين والآخر، خاصة عندما اصطدمت مصالح قادة الجيش بمصالح الخليفة، وسلطتهم بسلطته.
بعد قيام الدولة العباسية حاول الخلفاء تقليم أظافر قادة الجيش الذين حاولوا بسط نفوذهم على حساب السلطة السياسية، وذلك منعاً للانقلاب عليهم والاستئثار بالحكم. ويذكر الدكتور محمد عبد الحفيظ المناصير، في كتابه الجيش في العصر العباسي الأول 132-232هـ، أن الخليفة أبا جعفر المنصور كان لا يرتضي أن يشاركه في نفوذه قائد أو وزير؛ لذا عمل على تصفية القادة الذين اختلفوا معه.
ومن أبرز محاولات الانقلاب على السلطة في تلك الفترة التمرد الذي قام به القائد عبد الله بن علي العباسي، عم المنصور، حيث أراد الاستئثار بالخلافة. ويروي المناصير أن عبد الله بن علي بلغه موت الخليفة أبي العباس السفاح، فدعا إلى نفسه بالخلافة، بحجة أن أبا العباس وعده بالخلافة من بعده، ولعب الجيش دوراً مهماً في ذلك، فقد بايع عبدَ الله جيشُه بالخلافة وناصره أهل الشام، فخرج عبد الله على رأس جيشه وعسكر في دابق.
وإزاء هذا الوضع، أمر المنصور القائد أبا مسلم الخراساني بقمع التمرد، فالتقى الفريقان عند منطقة نصيبين، وانتصر أبو مسلم على عبد الله بن علي في سنة 137هـ، بعد أن استمر القتال ستة شهور، فهرب عبد الله إلى أخيه سليمان والي البصرة، ثم سلَّمه سليمان سنة 139هـ إلى أبي جعفر المنصور بعدما أمَّنه، إلا أنه سجنه، ثم تخلص منه بعد تسع سنين في سنة 147هـ.
وفي خراسان، لقي عامل أبي جعفر المنصور مصرعه سنة 140هـ؛ إذ ثار جنده وتوجهوا إلى منزله، فأشرف عليهم من سطح منزله، إلا أنه سقط ومات، فأرسل المنصور القائد عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، الذي تمكن من قتل قادة التمرد والولاة على المدن واستأثر بالسلطة، فجهَّز له المنصور جيشاً كبيراً بقيادة خازم بن خزيمة التميمي، وجعل ابنه محمداً (الخليفة المهدي فيما بعد) أميراً لذلك الجيش، وأمر خازم أن يُنزل ابنه محمد في الري، ويسير لقتال المتمرد عبد الجبار، ولما علم أهل مرو بقدوم القائد للقضاء على التمرد قاتلوا المتمرد وأسروه وسلَّموه إلى خازم، فأرسله إلى المنصور.
في بدايات عهد المعتصم (218 - 227هـ) قامت فئة من القادة العسكريين الموالين للأمير العباس بن المأمون بمحاولتين انقلابيتين فاشلتين. وبحسب فاروق عمر فوزي، في كتابه الجيش والسياسة في العصر الأموي ومطلع العصر العباسي (41هـ/ 661م – 334/ 956م)، كان المعتصم في المحاولة الأولى حذراً متيقظاً، وكان الأمير العباس متردداً غير واثق من نفسه، أما في المحاولة الثانية التي وقعت أثناء العمليات العسكرية في عمورية فقد كان المعتصم أكثر حسماً للأوضاع حين أمر بتصفية القادة العسكريين المشاركين مثل القائد أبي دلف العجلي، ومعهم بطبيعة الحال الأمير العباس بن المأمون.
وهذان الانقلابان كانا جس نبض للسلطة العباسية من قبل قادة الفرق القديمة من أجل الحصول على امتیازات جديدة، كما أن هؤلاء القادة كانوا على علم بنوايا المعتصم وخططه؛ إذ عمل مثل أخيه المأمون على الاستزادة من المقاتلة من أهل المشرق (خراسان وبلاد ما وراء النهر)، لذا حاول هؤلاء القادة التخلص منه قبل أن يتخلص منهم ويفقدهم عملهم في الجيش.
وبعد نجاح المعتصم في التخلص من القادة العسكريين المعارضين لوجوده على رأس السلطة ولخططه، بدأ بالاستزادة من الجند الترك المجلوبين بطرق شتى من المشرق؛ لأنه كان يدرك مدى حاجة الدولة إلى عنصر مقاتل جديد يدين بالطاعة إلى الخليفة والسلطة أولاً وقبل كل شيء، وكان من الطبيعي أن تلقى خطط المعتصم العسكرية معارضة الجند من أهل بغداد والخراسانية والعرب (أي القطاعات العسكرية القديمة)، لذا اتجه إلى بناء مدينة سامراء وانتقل إليها بجنده التركي نتيجة ضغط هذه الفرق عليه.
كما لقيت سياسة المعتصم في تقريب الجند الترك معارضة من بعض العباسيين من الأسرة الحاكمة، والذين استنكروا صعود أشخاص أمثال الأفشين وإيتاخ وأشناس إلى مرتبة القادة وموالي الخليفة، ووصفوهم بأنهم «فروع لا أصول لها»، لكن المعتصم لم يأبه بهذه الاعتراضات وحقق جيشه الجديد انتصارات كبيرة على أعداء السلطة في الخارج والداخل، أعادت إلى الأذهان الأمجاد العسكرية القديمة، بحسب فوزي.
غير أن سياسة المعتصم العسكرية كانت سيفاً ذا حدين، فكان من نتائجها السلبية استفحال قوة بعض القادة العسكريين الترك نتيجة الانتصارات التي حققوها وتطلعهم إلى الانفصال عن الدولة تماماً، فقد أراد القائد الأفشين أن يستقل ببعض الأقاليم في بلاد ما وراء النهر، وأغرى الحاكم الأصبهبذ الطبرستاني بالتمرد على الدولة من أجل أن يشغل المعتصم عن نواياه الانفصالية، لكن المعتصم كان في مستوى المسئولية ونجح في إفشال هذه المحاولة، حسبما روى فوزي.
ويبدو أن المعتصم بدأ يدرك تدريجياً، خاصة بعد مؤامرة القائد الأفشين، نقطة الضعف في الجيش الجديد، وهي قلة ولاء قادته البارزين واستمرار تطلعهم إلى مواطنهم التي استُقدِموا منها، ثم تعصب الجند الترك لقادتهم وأمرائهم وإخلاصهم لهم أكثر من إخلاصهم للسلطة العباسية والعمل على خدمة مصالحها وتنفيذ سياساتها.
ظهرت بوادر سيطرة قادة الجيش من الترك على إدارة الدولة وسياستها في عهد الخليفة الواثق بالله (227 - 232هـ)، فقد استخلف القائد أشناس التركي، ووضع على رأسه تاجاً، فكان بذلك أول خليفة استخلف سلطاناً.
وبلغ نفوذ القادة الأتراك درجة دفعت الخليفة الواثق للإقرار بأن القائد أشناس ومعه القائد إيتاخ تقاسما الدولة من مشرقها إلى مغربها، فكان المغرب من نصيب أشناس والمشرق من نصيب إيتاخ، ولكنهما لم يتركا العاصمة خوفاً على مركزهما من القادة المنافسين لهما، بل عيَّنا عدداً من الإداريين لإدارة الأقاليم التابعة لهما.
وهكذا تخلى القادة، ومن ورائهم الجند، عن واجباتهم العسكرية لينصرفوا إلى السياسة والإدارة التي تستوجب كفاءة عالية كانوا يفتقرون لها. والأكثر من ذلك – كما يذكر فوزي - أن الخليفة الواثق لم يعين ولياً للعهد في حياته، فمنح قادة الجيش الترك خاصة الفرصة التي ينتظرونها لتقرير مصير أعلى سلطة دينية - سياسية في الدولة، ألا وهي الخلافة.
بعد موت الواثق سنة 232هـ نظر المجتمعون من القادة العسكريين، وعلى رأسهم القائد وصيف وأشناس وكذلك الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، في الأسماء المقترحة، وقرر القادة بتأييد من الفقيه أحمد بن دؤاد وخلافاً لرغبة الوزير تعيين جعفر المتوكل على الله.
وبحسب فوزي، خشي المتوكل هو الآخر من انقلاب الجنود الأتراك عليه، لذا انتهج سياسة جديدة لإبعاد العسكر عن التدخل في شئون الدولة. ففي البداية حاول إرضاء طموحات قادة الجيش وتعطشهم للسلطة، ومن أجل كسب ثقتهم عيَّن القائد إيتاخ قائداً عاماً للجيش وقائداً للمغاربة والأتراك والموالي إضافة إلى مسئولياته في دار الخلافة (الحجابة) والبريد، وعيَّن القائد بغا الشرابي (الصغير) قائداً في الجيش وحاجباً، والقائد وصيف قائداً في الجيش، والقائد بغا الكبير قائداً لحملة أرمينية سنة 238هـ، والقائد صالح التركي أميراً على دمشق، والقائد يزيد التركي أميراً على مصر، والقائد موسى بن بغا الكبير قائداً للحرس الخاص (حرس القصر).
وفي مرحلة تالية أبعد الخليفة القائد إيتاخ إلى الحجاز بانتدابه للحج، وعند عودته وضعه تحت الإقامة الإجبارية في بغداد، ثم أمر بقتله، وبذلك تخلص من أخطر قائد تركي كان يهدد حياة الخليفة.
وتدخل ترتيبات المتوكل بتقسيم الدولة إلى مناطق يحكمها أبناؤه الثلاثة المنتصر والمعتز والمؤيد ضمن هدف تعزيز دور السلطة المركزية وإضعاف دور القادة العسكريين، ثم خطا المتوكل خطوة أخرى محاولاً إضعاف الجند الترك في سامراء، فقسمهم إلى ثلاث فرق، وأرسل كل فرقة مع أحد أبنائه إلى مركز عمله الجديد، ومنح قادتهم إقطاعات في المناطق التي نُقلوا إليها.
وعندما صفا الجو للخليفة بدأ بتشكيل جيش نظامي جديد موالٍ للسلطة المركزية لا تتقاسمه ولاءات أخرى للقادة العسكريين، كما لم يعتمد الخليفة من حيث الموارد البشرية على الأقاليم الشرقية وحدها، حيث ظهرت فيها نزعات إقليمية وعنصرية جديدة، بل توجه نحو بلاد الشام والجزيرة الفراتية وأرمينية وأذربيجان والقفقاس، فكان جيش المتوكل الجديد خليطاً من جنسيات عديدة عربية وأعجمية.
ثم جاءت خطوة المتوكل على الله التالية بالانتقال مع هذا الجيش إلى دمشق سنة 243هـ ليكون في جو بعيد عن مضايقات الجند الترك في سامراء، لكن المحاولة فشلت، وهدد القادةُ المتوكلَ بالقتل وأجبروه على العودة إلى سامراء بعد نحو شهرين، حيث أدركوا أن ابتعاد الخليفة عنهم معناه فقدان امتيازاتهم وضرب مصالحهم.
لم يستسلم المتوكل للأمر الواقع، وفكر جدياً في استئصال القادة الأتراك، فبنى مدينة جديدة قريبة من سامراء سماها الجعفرية، وأسكنها جيشه الجديد، وأقطع قادته الموالين له قطائع فيها.
وبناءً على هذه التحولات غدا الصراع بين السلطة والقادة الأتراك سافراً؛ إذ عمل الخليفة على الحط من مراتبهم، فصادر ضياع القائد وصيف، وهدد القائد بغا بالقتل، وهنا قرر القادة العسكريون الترك من جيش سامراء القديم أن يتخلصوا من الخليفة قبل أن يتخلص منهم، وعزموا على ذلك، فقتلوه في مجلسه بعلم من ابنه الأكبر المنتصر الذي حاول الخليفة أن يبعده عن ولاية العهد الأولى لصالح الابن الثاني المعتز.
وكان من الطبيعي أن يحدث شغب في معسكرات الجند المغاربة وقوات أخرى موالية للخليفة المقتول، لكن قادة الانقلاب سيطروا على الموقف وقتلوا مجموعة من الجند المتمردين وأمراءهم، فهدأت الحالة من جديد. وبحسب فوزي، يعد المتوكل أول خليفة عباسي قُتل بانقلاب عسكري قام به الجيش، حيث بدأ قادته مرحلة جديدة من التحكم المباشر والمكشوف في أمور السلطة السياسية.
ولم تظهر النتائج السلبية لهذا الوضع بصورة مكشوفة إلا في العهد الذي تلا مقتل المتوكل، حيث تولى الحكم خلفاء غالبيتهم ضعفاء مسلوبو السلطة، وأصبح الطريق مفتوحاً أمام الجيش ليسيطر على مقاليد الأمور وليكون المحرك الأول للسلطة، وذلك لخلو الساحة السياسية من تكتلات أو قوى أو مؤسسات تملك القوة الكافية التي تمكنها من أن تحد من تجاوز الجيش لسلطاته ومسئولياته أو توقفه عند حده.
تمثلت إحدى النتائج السلبية لسيطرة القادة الأتراك على الحياة السياسية في عدم انقطاع ثورات الجند على الخلفاء للمطالبة برواتبهم وأرزاقهم. يروي عمر فلاح عبد الجبار، في دراسته نفوذ الترك على خلفاء بني العباس وأثره في قيام الإمارات المستقلة، أنه في سنة 253هـ خرج جند الفراغنة والأشروسنية مطالبين بأرزاقهم من الخليفة المعتز، واستغل قادة الترك وعلى رأسهم صالح بن وصيف وبايبكاك الذي أقطعه المعتز ولاية مصر هذه الثورة، فاتفقوا مع أنصارهم على إجبار الخليفة على خلع نفسه ففعل، إلا أنهم فيما بعد قتلوه شر قتلة سنة 255هـ، وطارد القائد صالح بن وصيف حاشية الخليفة وصادر أموالهم، ووصلت به الجرأة إلى مصادرة أموال أم الخليفة السلطانة قبيحة رغم كونها تركية الأصل، ثم نفيها إلى مكة.
ولما بويع الخليفة محمد بن الواثق – المهتدي – بالخلافة (255 -256هـ) حاول الحد من سلطة الأتراك، إلا أنه واجه مقاومة شديدة منهم، لذا سعى إلى ضرب القادة الترك بعضهم ببعض لإضعاف شوكتهم، إلا أن القادة أدركوا أن الخليفة يتلاعب بهم، فعملوا على إضعافه بعد أن استولوا على الأموال والإقطاعات، كما استولوا على الخراج، لدرجة أن المهتدي لم يجد من الأموال ما يسد به حاجة الجند وأرزاقهم.
وبحسب عبد الجبار، تطورت الأمور إلى اشتباك قوات الخليفة من المغاربة والفراغنة والأشروسنية من ناحية، وقوات الترك بقيادة موسى بن بغا وصالح بن وصيف وبايكباك من ناحية أخرى، وكانت الغلبة من نصيب الترك، حيث هزموا جيش الخليفة وقبضوا عليه وطلبوا منه أن يخلع نفسه، فأبى فقتلوه.
وفي عهد الخليفة المقتدر بالله عادت الانقلابات العسكرية مرة أخرى، يذكر محمد فياض العزي، في دراسته الخلاف بين الجيش والدولة في ظل العباسيين (247 - 334هـ / 861 - 945م)، أن المقتدر كان أصغر من تولى هذا المنصب من خلفاء وملوك المسلمين، حيث كان عمره ثلاث عشرة سنة، وكان ذلك سبباً رئيساً في الانقلاب عليه، حيث عزم القواد والكتاب والقضاة سنة 296هـ على خلعه ومبايعة عبد الله بن المعتز، الذي وافق على تولي الخلافة دون سفك دماء بعد أن تعهدوا له بأن الأمر يسلم له عفواً وبموافقة الجند.
ولم ينتظر قادة الجند كثيراً؛ إذ وثبوا على الوزير العباس بن الحسن الذي عارض هذا الانقلاب فقتلوه، ثم خلعوا المقتدر، وبويع عبد الله بن المعتز خليفة للأمة، وهكذا بدأ تدخل الجيش في شئون الدولة بعد غياب استمر نحو أربعة عقود.
وبدأ ابن المعتز عهده بإرسال كتاب إلى المقتدر يأمره بالخروج من دار الخلافة والانتقال إلى دار ابن طاهر مع والدته لينتقل هو إليها، تمهيداً لتولي مهام السلطة، فأجاب المقتدر على ذلك بالسمع والطاعة.
ولحسم الأمور على عجل هاجم أحد كبار الحركة الانتقالية وهو الحسين بن حمدان قصر الخليفة للاستيلاء عليه، إلا أنه اشتبك في معركة قوية مع غلمان الدار بقيادة مؤنس الخادم استمرت من الصباح حتى انتصاف النهار دون أن يحقق أي نصر عسكري، حيث عجز عن إيجاد موطئ قدم له داخل أسوار القصر بسبب المقاومة الشديدة، كما روى العزي.
ولم يكتفِ غلمان دار الخلافة بصد هجوم ابن حمدان، بل قاموا بهجوم معاكس وخاطف على مقر عبد الله بن المعتز لإحساسهم بتعرض مصالحهم للخطر، فهرب من كان بها دون مقاومة ومعهم ابن المعتز آملاً أن يلحق بهم الجيش، إلا أن ذلك لم يحدث، وانتهت المحاولة الانقلابية بالفشل، وعاد المقتدر إلى السلطة وأُلقي القبض على ابن المعتز وكانت نهايته القتل.
وبعودة المقتدر إلى الخلافة على يد مؤنس الخادم وجنده بدأت شخصية مؤنس بالظهور، والتي سيكون لها دورها في الأحداث السياسية والعسكرية في الدولة خلال هذه المرحلة، أما أنصار ابن المعتز فقد أُلقي القبض عليهم، وكان مصير أكثرهم القتل بالسيف.
وبتولي الخليفة المقتدر الخلافة عاد الخلاف بين الجيش والدولة إلى سيرته الأولى، وتنوعت مظاهر ذلك ما بين الخروج على الدولة والتمرد عليها في الأقاليم التابعة لها حيناً، والشغب مطالبين بأرزاقهم بمناسبة وبدون مناسبة حيناً آخر، والانقلاب على رأس الدولة حيناً ثالثاً.
فعلى صعيد الخروج على الدولة في الأقاليم التابعة لها لجأ بعض القادة العسكريين الذين تولوا تلك الأقاليم عن طريق الضمان إلى التمرد ورفض دفع ما عليهم من ضمان تلك الأصقاع كلما أحسوا من الدولة ضعفاً، مثلما فعل يوسف بن أبي الساج الذي أعلن التمرد سنة 295هـ، فأمر المقتدر قائده خاقان المفلحي بالخروج إليه في أذربيجان لتأديبه، إلا أن الخليفة عاد وعفا عنه وقلده المراغة (منقطة مشهورة في أذربيجان) وأذربيجان وحمل إليه الخلع والهدايا، كما روى العزي.
وفي سنة 317هـ توترت العلاقة بين الجيش والدولة بعد أن كثرت الأراجيف التي رددها المرجفون بأن الخليفة عازم على عزل مؤنس من قيادة الجيش وتسليمها إلى هارون بن غريب الخال، ما أثار غضب مؤنس، فانسحب بالجيش إلى منطقة الشماسية مغاضباً الدولة، ثم أرسل إلى المقتدر بأن الجيش عاتب منكر للسرف فيما يسير للخدم والحرم من الأموال والضياع، ولدخولهم في الرأي والتدبير، وطلب مؤنس إخراجهم من دار الخلافة.
ورد المقتدر على مؤنس برسالة يستميله فيها، إلا أن قادة الجيش الآخرين الذين مع مؤنس طالبوا بإخراج هارون بن غريب الخال من بغداد، فأجابهم الخليفة إلى ذلك وقلده الثغور الشامية.
ويبدو أن سبب خروج هؤلاء على الدولة لا يعود في الواقع إلى تدخل الحرم والخدم في شئون الدولة كما يدعي قادة الجيش، ذلك أن هؤلاء الحرم والخدم قد تدخلوا في أمور الدولة منذ تولي الخليفة المقتدر السلطة سنة 295هـ، ولم يظهر هناك احتجاج من قادة الجيش على ذلك طوال هذه الفترة.
ولعل الأسباب الكامنة وراء هذا الخروح تعود إلى صرف المقتدر عبد الله بن حمدان عن مدينة الدينور، وهو أحد القادة العسكريين المساندين لمؤنس الخادم أولاً، ثم التنافس على السلطة في حاضرة الخلافة بين كبار القادة العسكريين ثانياً، خاصة بعدما أشيع أن هارون بن غريب الخال سيصبح أميراً للأمراء، ويُستدل على ذلك بإصرار قادة الجيش المتمردين على إخراج هارون من دار الخلافة، فكان لهم ما أرادوا.
مهما كان الأمر، فقد عاد الجيش المتمرد إلى بغداد، حيث زحف إلى دار الخلافة، فهرب من كان بها من الخدم والحجاب، وأخرج المقتدر أهله إلى دار مؤنس الخادم ليستتروا فيه بأمر من مؤنس، ونهب الجند دار الخلافة، واستقر رأي عبد الله بن حمدان وصاحبه نازوك على خلع المقتدر وتقليد محمد بن المعتضد (القاهر) الخلافة، وأشهد المقتدر على نفسه بالخلع.
وبعد فترة، ثار الجند على نازوك بسبب تأخر صرف العطاء، وعدم تلبية مطالبهم، فهجموا على دار الخلافة وقتلوا نازوك، ثم حملوا المقتدر إلى دار الخلافة، وجيء بالقاهر إلى المقتدر، والقاهر يرتجف خوفاً ويقول: «نفسي، نفسي يا أمير المؤمنين»، فعفا عنه المقتدر.
وبحسب العزي، ترتب على هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة الإطاحة برءوس قادتها، وهم نازوك وعبد الله بن حمدان، في حين لم يتعرض القائد الأعلى للجيش مؤنس الخادم لأي سوء.
لم يمضِ على أحداث خلع المقتدر عامان حتى بدأت الفتنة تطل برأسها من جديد، ففي سنة 319هـ وفي وزارة الحسين بن القاسم بلغ مؤنساً أن الحسين تآمر مع جماعة من القواد عليه، فثارت ثائرته وطلب من الخليفة عزل الحسين من الوزارة، فأجابه المقتدر إلى ذلك، إلا أن مؤنساً تمادى وطالب الخليفة بالقبض على الوزير ونفيه إلى عمان، فامتنع المقتدر.
ومثَّلت هذه الأجواء تربة خصبة لنشر الوشايات والسعايات، ومن ثَم زادت الأمور تعقيداً، ما ترتب عليه استمرار التصعيد العسكري بين الجيش والدولة، وسارت الأمور نحو المواجهة المسلحة، والتقى الجمعان في معركة.
ويروي العزي أن قادة جيش المقتدر ألحُّوا عليه بالاقتراب من ساحة المعركة لرفع معنويات الجند، إلا أن أصحابه انهزموا قبل أن يصل إليهم، فلقيه مجموعة من البربر من جند مؤنس الخادم، فأحاطوا به، فضربه أحدهم من خلفه ضربة سقط على أثرها أرضاً، فقتلوه وقطعوا رأسه وسلبوا ثيابه، إلى أن مر به رجل فستر جثته بحشيش، ثم حفر له في نفس المكان حفرة دُفن فيها حتى عفا أثره، وتولى الخلافة من بعده محمد بن المعتضد ولُقب بالقاهر.